بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرما
كما جاء في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي
وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا"..
والاحاديث في ذم الظلم كثيرة..
فإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب ولو استنار بنور الهدى لعتبر..
قيل: إن الظلم ثلاثة: فظلم لا يُغفر، وظلم لا يُترك، وظلم مغفور لا يُطلب، فأما الظلم الذي
لا يغفر فالشرك بالله، نعوذ بالله تعالى من الشرك، قال تعالى: "إن الله لا يغفر
أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" [سورة النساء:48]، وأما الظلم الذي لا يترك
فظلم العباد بعضهم بعضًا، وأما الظلم المغفور الذي لا يطلب، فظلم العبد نفسه
قال المفسرون: هذه الآية نزلت في خصوص بعض المشركين-وإن كانت العبرة بعموم اللفظ-
فالذي لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتد به ولم يدخل في دينه
يعض على يديه يوم القيامة ويقول ذلك..
يقول ابن عباس و سعيد بن المسيب : إن الظالم هاهنا يراد به عقبة بن أبي معيط وخليله أمية بن خلف
وتذكر بعض الروايات أن سبب نزول هذه الآيات هو أن عقبة بن أبي معيط كان يكثر من مجالسة
النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاه إلى ضيافته فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل من طعامه
حتى ينطق بالشهادتين، ففعل. وعلم بذلك أبي بن خلف وكان صديقَه، فعاقبه
وقال له: صبأت؟ فقال: لا والله ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه
فشهدت له، فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فوجده ساجدا
في دار الندوة ففعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ألقاك خارجَ مكة
إلا علوت رأسك بالسيف))فأسر يوم بدر فأمر عليًّا قتله..
وهذا القَبَس من كِتاب الله ورد ضِمن مشهد مِن مشاهِد يوم القِيامة وهو مشهد النَدم
قال تعالى: " وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى
لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً "
[الفرقان: 27-29]
فلا يكفيه اصبع..اصبعين...ثلاثة..بل ولا تكفيه يد واحدة يعض عليها
إنما هو يداول بين هذه وتلك , أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من الندم اللاذع ..
"وقد جاء التعبير بلفظ الظَّالم دون الكَافر ـ والله تعالى أعلم ـ ليشمَل الكَافر وغيره
مِمَّن ينتسب إلى الإسلام، وقد ظَلم نفَسه بالذُّنوب والعِصيان
أو ظَلم غيره بالإفْك والإعتِداء والغٍيبة والنَّميمة والبُهتان..
وعَضُّ اليدين جَميعاً كِناية عن شِدّة الندم والألم والخُسران..
وهو في هذا المقام العَصيب يندم على فوات أمرين جليلين:
أحدُهما: اتخاذُ سبيلٍ مع الرَّسول الكَريم وذلك باتِّباعه وطَاعته وسُلوك سبيله القويم..
والثاني: ترك رِفقة السُّوء الأشرَار الذين كانوا سَبباً في زيغِه وابتعِاده عن سبيلِ الرَّسول
وتزيين الإنحرَاف له، سواء كان هذا الإنحِراف سُلُوكياً أخلاقِياً، أو فِكرِياً وعَقدَياً، وهو الأسوأ..
ولقد أكثر الرَّسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من التحذير مِن صاحب السُّوء في أحاديث كثيرة
وحثّ على مُصاحبة الأخيار الصَّالحين، ذوي الأخلاق الحسنة والسُّلوك الحَسَن
والفِكر النَّظيف الصَحيح، ومِن ذلك قوله: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل "..
ثُمّ في خِتام الآية تَجيء الِإشارة إلى العَدُّو الأوّل للإِنسان، والذي تخرّج في مدرسته رُفقَاء السوء
وضُلّال البشر، ألا وهو الشَّيطان الرَّجيم: " وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً "
يَخذله في الحَياة الدُنيا حِين يُزيِّن له مُصاحبة الأشرار، وعمل الفُجّار، واعتناقِ السيء من المبادىء والأفكار
ويخذله عند الإحتِضار حين يصُدّه عن الرُّجوع والتَّوبة والإستغفَار، ويدعوه إلى الثَّبات على الباطِل والإصرَار
ويخذله يوم القيامة حين يقوم خطِيباً في أصحابه ويتبرأَ مِنهم
قال تعالى في كتابه الكريم: " وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي
وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ
إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " [إبراهيم:22].." *
ففي زحمة هذه الحياة وتهافت الكثير من الناس عليها وفي ظل مظاهر اللهو والعصيان
وانتشار الفساد وطغيان قسوة القلوب والتنكّر لشرع الله وأحكامه
اقبل على الله بعزم وصبر وكن ممن يبتغون الزلفى والقربى إليه فأنتَ الآن فِي دار القرار
وقد علمتَ ما سيكون في الدار الآخرة مِنش النَّدم والإقرار
فهلاَّ اخترتَ لنفسكَ الرفقة الطيبة الصالحة الخيرة الذين يُعينونك على الهِداية والثَّبات
ويحفظُونك ـ بإذنِه تعالىـ من الزَّيغ والإنحِراف
وتدخل فيمن وصفهم الله تعالى في معرض المدح وقوى عزائمهم للعمل واتباع الحقّ
فقال سبحانه : "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً
يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ " [ فاطر:29، 30].
اللهم ارحم حالنا وتفريطنا وهواننا وضعفنا يا قوي يا عزيز ..